ي مثل هذا اليوم من العام الماضي غادرنا وإلى الأبد شيخ المدرّبين عبد الحميد كرمالي مهندس التتويج التاريخي بالكأس القارّية الوحيد في سجِّل المنتخب الوطني عام 1990 على حساب المنتخب النيجري بهدف لصفر· وبمناسبة ذكرى وفاة الشيخ كرمالي ارتأينا أن نعيد عليكم المسيرة الكاملة لهذا المدرّب الذي أعطى الكثير والكثير للكرة الجزائرية، فشكّل رحيله خسارة كبيرة جدّا للجزائر والجزائريين·
كريم مادي
أقبو مسقط رأس عبد الحميد كرمالي
ولد الشيخ عبد الحميد كرمالي في مدينة أقبو بولاية بجاية، في السابع والعشرين من شهر أفريل 1391، كان والده عسكريا ضمن الجيش الفرنسي حينما رزق به، وهو ابنه البِكر، ثمّ رزق بعده بولدين وبنت لا يزال منهم سوى الشقيق الأصغر المدعو (محمد) على قيد الحياة، وهو صورة طبق الأصل عن أخيه عبد الحميد، بعدما توفيت الأخت قبل عدّة سنوات والأخ الأوسط قبل حوالي ثلاث سنوات·
قصّة كرمالي مع "الساحرة"
كان الشيخ مولعا بكرة القدم، وهو القائل ذات يوم (لقد كنت ألعب الكرة لساعات طويلة في وسط مدينة سطيف، وبمحاذاة ثانوية القيرواني -البيرتيني سابقا- وكان الشيخ علي بن عودة المدعو [لاياص] يأتي دوما إلى ذلك المكان من أجل اختيار البراعم الشابّة لتدعيم فريق اتحاد سطيف لكونه الفريق العربي الوحيد الذي كان موجودا في ذلك الحين وقد شاهدني ألعب فأمرني بعد نهاية المباراة بأن أتبعه إلى مقرّ النادي، حيث منحني بذلة رياضية وطلب منّي الحضور إلى تدريبات الفريق في اليوم الموالي ضمن تشكيلة الأصاغر، حيث لعبت لموسمين كاملين، ثمّ رقّيت إلى صنف الأشبال ولعبت موسما واحدا قبل أن أفاجأ خلال موسمي الثاني باستدعائي لمباراة فريق الأكابر، وكانت القائمة تعلّق في مقهى الفريق [الساركل)، اندهشت كثيرا لمّا وجدت نفسي ضمن قائمة تضمّ لاعبين كبار أمثال لعريبي، جليلي، بوخريصة، زراري وغيرهم· هذا الأخير كان دوما يشجّعني ويقول لي: اِلعب ولا تخف فأنا وراءك)·
كرمالي وبداية التألّق
سطع نجم كرمالي بسرعة من خلال مشاركته في مباراة اتحاد سطيف ونجم قسنطينة لحساب كأس الجزائر، وكان لا يزال في السنة الأولى لصنف الأواسط، وهناك شاهده أحد المدرّبين الفرنسيين فنصحه بضرورة التوجّه إلى فرنسا لخوض تجربة احترافية، وهنا يقول كرمالي: (غير أن والدي كان شديدا معي في جانب الدراسة ورفض هذه الفكرة جملة وتفصيلا، وفعلا ركّزت على دراستي وتحصّلت على الشهادة النّهائية في الدراسات)·
الرّحلة نحو فرنسا
بعد وفاة والد عبد الحميد وبقاء العائلة من دون مصدر رزق ثابت، خاصّة وأن منحة الأب لم تكن تصلهم، ورغم أن أعمامه كانوا يحاولون دوما إعانتنهم، إلاّ أن الوضع لم يعد على ما كان عليه أيّام الوالد، وبالتالي قرّر عبد الحميد التنقّل إلى فرنسا وقد سبقه إلى ذلك أحد الأصدقاء المدعو (بوذراع) فتوجّه إليه مباشرة في مدينة ميلوز الفرنسية واستقبله بحفاوة كبيرة، وكان يعمل في مصنع للأسلحة، وقد وعده بأن يجد له منصب عمل معه· ورغم أن الفرنسيين كانوا يتحاشون توظيف العرب في مثل هذه المصانع، إلاّ أن صديق كرمالي نجح في مهمّته وأقنع المسؤول عن العمال بتوظيفه، غير أنه لم يكن ملتزما بأوقات العمل وكان شغوفا بلعب كرة القدم، فكان كرمالي يتأخّر في كلّ مرّة عن الاِلتحاق بعمله، وهو ما جعل المسؤول عن العمال يطرده، وقال له (أنت لا تصلح للعمل، اذهب للعب كرة القدم)، وقد كان مسيّرو فريق مولوز يتابعونه عن قرب وجاءه أحد المناجرة اليهود المدعو (ليفي) وقال له بالحرف الواحد: (أنا سأبيعك)، فقال له: (كيف تبيعوني وأنا إنسان حرّ؟) فشرح له المسألة وأخذه إلى مسؤولي فريق ميلوز وكان فريقا هاويا·
الانطلاقة من ميلوز
لعب ذات مرّة كرمالي في كأس فرنسا ضد فريق (كان) المحترف في مدينة (سات) التي كان يلعب لفريقها المرحوم مختار لعريبي، وهو الذي أكّد له بعد نهاية المباراة أن مسؤولي فريق (كان) يريدون الاستفادة من خدماته، وفعلا وقّع كرمالي لهذا الفريق وأصبح لاعبا محترفا يملك سيّارة وشقّة ورصيدا في البنك·
ليلة الهروب من ليّون والاِلتحاق بفريق جبهة التحرير
أرادت جبهة التحرير الوطني أن تشكّل منتخبا يمثّل الجمهورية الجزائرية بحكومتها المؤقّتة، وكانت الفكرة أن يتمّ اختيار عشرة لاعبين جزائريين هم الأحسن على مستوى البطولة الفرنسية، وفي هذا قال المرحوم كرمالي: (كنا نحن أربعة من ولاية سطيف: لعريبي مختار، مخلوفي رشيد، رواي عمّار والمتحدّث، طبعا إلى جانب اللاّعب الكبير مصطفى زيتوني، الحارس بوبكر، بخلوفي وغيرهم، وقد اتّصل بنا السيّد مختار لعريبي رفقة بومزرق وشرحا لنا الوضع جيّدا وقرّرنا الفرار من فرقنا، على أن يدخل خمسة لاعبين من الحدود الفرنسية السويسرية والخمسة الآخرون عبر الحدود الفرنسية الإيطالية، وكان فريقي ينوي التنقّل إلى مدينة نيم للعب مباراة مهمّة في إطار البطولة الفرنسية، حيث تظاهرت خلال اللّيل بالمرض وقمت بشراء بعض الأدوية، ولمّا علم المدرّب جاء مسرعا وتحدّث معي فقلت له إنّي أحسّ بحمّى شديدة ولا أقوى على السير فضرب كفّا بكفّ وتحسّر، ثمّ قرّر تعويضي بلاعب آخر، فالتقيت أنا ومخلوفي ولعريبي وبوشوك وبراهيمي وتوجّهنا مباشرة إلى الحدود السويسرية، وهناك لاحظنا أحد أعوان الجمارك الذي يتابع كرة القدم جيّدا، فقال لنا: (كرمالي، مخلوفي، براهيمي وبوشوك كلّ هذه الأسماء تجتمع في مكان واحد؟ أمر لا يصدّق) وقد خفنا كثيرا من أن ينكشف أمرنا، لكن الأمور مرّت بسلام· بعدها ركبنا الطائرة مباشرة إلى إيطاليا، حيث علمنا بأن الجماعة الأولى سافرت نحو تونس، ثمّ لحقنا بهم هناك، وقد نزل هروبنا كالصاعقة على السياسيين الفرنسيين والقائمين على كرة القدم، خاصّة وأن زيتوني ومخلوفي كانا على وشك تمثيل المنتخب الفرنسي في نهائيات كأس العالم 85 بالسويد، ولم تجد وسائل الإعلام الفرنسية من سبيل لتشويه صورتنا غير نعتنا بالفلاّفة)·
العودة إلى الوطن بعد الاستقلال
بعد الاستقلال مباشرة عاد المرحوم كرمالي إلى فريقه الأوّل (اتحاد سطيف)· ورغم اتّصالات فريق ليون به وإغرائه بالأموال، لعب كرمالي مع الاتحاد وكانت أكبر المباريات التي خاضها ضد الوفاق، حيث كان بمثابة الشبح الأسود لهم وربح في أوّل مواجهة، وقد حاول الوفاق خطفه من الاتحاد ووقعت مشاكل كثيرة بسببه، حتى وهو مدرّب كان كلّ فريق يتمسّك بخدماته·
اعتزال الملاعب
أنهى كرمالي آخر موسم له كلاعب ومدرّب مع الوفاق خلال موسم 66/76، حينما تحصّل على كأس الجمهورية، وبعدها تفرّغ للتدريب، وكانت أغلب مواسمه مع الوفاق، حيث كان يتعاقب على العارضة الفنّية له مع المرحوم لعريبي، كما درّب فرق شباب قسنطينة واتحاد الشاوية وترجي مستغانم واتحاد عنابة ومولودية الجزائر والفريق الوطني للأواسط والأكابر، وخاض تجارب في كلّ من تونس ودولة الإمارات العربية، وقد كانت مسيرته حافلة بالألقاب والتتويجات·
التتويجات مع المنتخبات الوطنية تبقى مميّزة وفريدة من نوعها
تمكّن الشيخ كرمالي خلال مسيرته من الفوز مع المنتخب الوطني للأواسط بالبطولة الإفريقية والكأس الأفروآسيوية، وكان ذلك التتويج الأوّل والأخير للجزائر، والشيء نفسه مع منتخب الأكابر بقوله في أحد حواراته المطولة قبل وفاته بسنة واحدة: (أذكر أن تتويجنا بالكأس الإفريقية سنة 90 كانت الكأس الأحسن في تاريخ هذه المنافسة، فلأوّل مرّة يفوز منتخب بكلّ شيء: أحسن دفاع، أحسن هجوم، أحسن هدّاف، أحسن لاعب وغيرها، وقد كنت قبل بداية أوّل مباراة ضد نيجيريا خائفا جدّا من ردّ فعل أنصار المولودية، بما أنني تركت فريقهم وأشرفت على المنتخب الوطني، فلمّا كنت أهمّ بالدخول إلى أرضية الميدان قلت لحارس المتاع، وهو الوحيد الذي بقي إلى جانبي بعد أن فضّل مساعداي الابتعاد عنّي خوفا من السبّ والشتم: أعلم جيّدا أننا لو دخلنا وصاح جمهور المولودية بحياتي وحياة اللاّعبين فسوف نحصل على هذه الكأس، وإذا حدث العكس فسوف نخسر المباراة وسوف أستقيل بعدها مباشرة، وفعلا لمّا شاهدني جمهور المولودية نهض الجميع وصاحوا: كرمالي·· كرمالي، فالتفتّ إلى حارس المتاع وقلت له: مبروك علينا الكأس)·
تلكم باختصار شديد المسيرة الكاملة لمهندس الكرة الجزائرية عبد الحميد كرمالي، فرحم اللّه فقيد الكرة الجزائرية وأسكنه فسيح جنّاته العالية·· {إنّا للّه وإنّا إليه راجعون}·