يطلق على أنصار هذا الرأي البراغماتون الذين يوظفون الإسلام كغطاء لبناء إمبرطورية إيرانية ذات طابع قومي مذهبي؛ فهم يؤمنون بأهمية توظيف الأمة الإيرانية لكافة إمكاناتها القصوى من أجل النمو داخل المجتمع الدولي، لذا فهم يريدون كل شيء من أجل الداخل ومن أجل الأمة القاطنة فيه، وتعتقد هذه الجماعة بأن الهدف من التمسك بالإسلام إنما هو في الواقع لتدعيم موقف إيران وتدعيم قوتها، كما أنهم يؤمنون بأنه إذا ما قامت إيران بنشاط دولي في العالم الإسلامي يقوم على أساس مساندة حركات التحرر الإسلامية، وعلى تصدير ثورتها، فهي في الواقع تحقق هدفاً مبدئياً يضمن هذا التوسع، وُيسهم في الغزو المعنوي الذي ُيضفي القوة على إيران.
تطبيقاً لذلك، إذا ما إمتلكت إيران قواعد شعبية وأيديولوجية في لبنان، وقدمت تمويلاً مذهبياً لأفغانستان، وإكتسبت نفوذاً مذهبياً ومعنوياً مماثلاً فى باكستان، فإنها فى الواقع ستصبح جميعها قواعد غير قومية وغير محدودة لإيران، ومن هنا فإنه يتوجب عليها أن تستفيد منها لأقصى درجة لغاية فرض هيمنة أكبر إذا إقتضت الضرورة، وهكذا يكون من الطبيعى أنه إذا أصبح لإيران قاعدة مثل لبنان، فإنها ستكون بمثابة دعم لها خارج حدودها، تستفيد منها وقتما تشاء، أو أنها مثلاً تستفيد من حزب الله فى توجيه ضربة ضد مصالح الدول التي لها عداوة معها، ومما لا شك فيه أن إيران فى هذه الحالة سوف لن تكون مجرد دولة، بل ستصبح تياراً عالمياً يتمتع بالهيمنة والقوة خارج حدودها.
ويحاول بعض منظري السياسة الخارجية الإيرانية الربط بين هذا الأمر ونجاح روسيا في بناء إمبرطورية كبيرة، فوفق وجهة نظرهم فإن الإتحاد السوفيتي الإشتراكي إنتهج هذا النهج لأمد طويل، على المستوى التطبيقي في سياسته الخارجية، وكان ذلك من أسباب قوته وهيمنته بوصفه قوة عظمى في ميدان السياسة الخارجية ذات البعد الأيديولوجي، وما كان تأسيس الكومينترن والكمينفورم وتوظيفهما، وتقديم الدعم اللامحدود لكوبا ولجميع الحركات الثورية الشيوعية في العالم إلا تطبيقاً لهذه الرؤية وتحقيقا للهدف الذي ذكر سالفاً، حيث أرسى الإتحاد السوفيتي دعائمه من خلال هذه الاستراتيجيات، وقام بنشر نفوذه في أنحاء العالم، لا سيما في أوروبا، إذ أسس في دول مثل فرنسا وإيطاليا أعظم الأحزاب الشيوعية الموالية له، والتي كان من خلالها يثير الفوضى العمالية التي تؤثر بحدة على صناعة القرار في هذه الدول وقتما تشاء، وبها إستطاع الروس -أيضاً- إرباك الوضع السياسي للأعداء. في الواقع كان الإتحاد السوفيتي ينتفع من الأيديولوجيا الماركسية-الشيوعية بوصفها أداة من أدواته الفاعلة في سياسته الخارجية وفي إدارة علاقاتة الخارجية.
أما فيما يخص الحكومة الإسلامية وسياستها الخارجية، فقد جرى هذا النمط الجدلي حولها ولا يزال، حيث إننا نعلم أن الإسلام دين الأمة الإسلامية، وأن كل من يؤمن بهذا الدين في أي مكان في العالم يعد من هذه الأمة، ومن ثم تصبح للمجتمعات الإسلامية الأخرى حقوق وواجبات على عاتقه. فلقد خرق الإسلام الحدود الجغرافية في جميع أحكامه وقوانينه ووصاياه، وتخطى حدود الدولة الواحدة، ومن ثم فهو لا يهتم بتقسيم الأمة فى إطار الحدود المتفق عليها دولياً، ذلك لتحكمه في أتباعه وحمايتهم ورعايتهم أنى كانوا، لذا نجد أن القول المأثور إذا سمع المسلم إستغاثة أخيه المسلم ولم يغثه فليس بمسلم هي الأساس لفكرة الإسلام اللاحدودي وغير القومي والعالمي.
ولقد تم التأكيد على هذا في بدايات عمر الثورة تأكيداً شديداً، لدرجة أن أعداداً كبيرة من مسلمي الدول المجاورة -لا سيما أفغانستان وبنجلاديش وباكستان والعراق- ترددوا على مكاتب تمثيل إيران في بلادهم، ودخلها عدد آخر منهم طلبا للتجنس بالجنسية الإيرانية، ومطالبين بحقوق المواطنة إعتماداً منهم على مبدأ أن الإسلام لا يعرف الحدود.
ثانياً: المدرسة الدينية "نظرية التكليف الإلهي" - نموذج الدولة الإسلامية:
تركز هذه النظرية على ضرورة العمل بالتكاليف الدينية بغض النظر عن العواقب أو النتائج المترتبة على ذلك، ويعتقد أنصار هذه النظرية أن ما يهم فى سبيل الوصول إلى أهداف السياسة الخارجية القائمة على الشريعة الإسلامية المقدسة، هو تطبيق القوانين الإلهية، ولا يجب علينا فى هذا الصدد أن ننظر إلى العواقب أو النتائج المترتبة على ذلك.
أصل أنصار هذا الرأي البعد الأيديولوجي للسياسة الخارجية الإيرانية وطموحاتها المتعددة، حيث تعتقد بوجوب الحيلولة دون إنعكاس المتغيرات والظروف الحالية في العالم على أي من مباديء ومرتكزات السياسة الخارجية للبلاد وطموحاتها، ويعتقد أنصار هذا الرأي بوجوب "النصرة" بمعنى أنه إذا إستجار أي من الإخوة المسلمين من أي مكان في العالم بإيران فعليها أن تهب لمساعدته ونجدته، والتباطؤ في ذلك غير جائز شرعاً، والعذر فيه غير مقبول على الإطلاق. وهنا يجدر بنا الإشارة إلى جملة من القضايا والأمور، فوجود قاعدة "الوسع" أي أن كل مسؤول أو حكومة إسلامية مسؤول في حدود وسعه، جعل جميع الإلتزامات والواجبات والتكاليف التي يلقيها الشرع على عاتق حكام الدول الإسلامية وعلى عاتق المسلمين محدودة بمرتكز محور "الوسع"، فالحكم القائم مكلف بتقديم العون للمسلم قدر "وسعه"، وعليه واجب التلبية. وسوف نتناول ذلك بإسهاب في مقالتنا القادمة بعون الله تعالى.
د. نبيل العتوم خبير في الشؤون الإيرانية